التنقيب عن الآثار في المملكة العربية السعودية، هو عمليات المسح والبحث عن الآثار في مواقعها المرصودة بمختلف المناطق، وعرَّف نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الصادر بمرسوم ملكي في عام 1436هـ/2014م مواقع الآثار بأنها الأعيان الثابتة والمنقولة والمطمورة والغارقة داخل حدود المملكة وفي المناطق البحرية الخاضعة لسيادتها أو ولايتها القانونية، التي بناها الإنسان، أو صنعها، أو أنتجها، أو كيفها، أو رسمها، وتكونت لها خصائص أثرية بفعل تدخل الإنسان عبر العصور، وإن امتد تاريخها إلى فترة متأخرة، على ألا تقل عن مئة سنة.
أنظمة الآثار في السعودية
أشارت أنظمة الآثار في المملكة إلى التنقيب كعملية تواكب الدراسات وعمليات البحث في المواقع الأثرية في المملكة، وعرَّف نظام الآثار الصادر في عام 1392هـ/1972م التنقيب عن الآثار في مادته الـ54 بأنه جميع أعمال الحفر والسبر والتحري التي تستهدف العثور على آثار منقولة أو غير منقولة، في باطن الأرض أو على سطحها، أو في مجاري المياه أو البحيرات أو في المياه الإقليمية.
لا يختلف هذا التعريف كثيرًا عن نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الصادر في عام 1436هـ/2014م، الذي عرَّف التنقيب عن الآثار بأنه جميع أعمال الحفر والسبر والتحري والغوص، التي تجري وفق أسس علمية، وتستهدف العثور على آثار في باطن الأرض، أو على سطحها، أو في مجاري المياه، أو البحيرات، أو في المناطق البحرية الخاضعة لسيادة المملكة، أو ولايتها القانونية. وأضاف إلى ذلك عملية المسح الأثري بوصفها جميع أعمال استكشاف مواقع الآثار وتوثيقها بالوسائل العلمية المختلفة، سواء على سطح الأرض أو في باطنها أو تحت الماء.
المواقع الأثرية في السعودية
تعاقبت على أراضي المملكة العديد من الحضارات منذ آلاف الأعوام، وذلك ما خلَّف شواهد خالدة ومتنوعة في كثير من المواقع الأثرية والتراثية، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد المواقع الأثرية المسجلة في السجل الوطني للآثار بالمملكة منذ إنشائه حتى رمضان 1445هـ/أبريل 2024م يبلغ نحو 8917 موقعًا أثريًّا في مختلف المناطق.وبحسب إحصاءات السجل الوطني للآثار حتى عام 1442هـ/2021م، اعتمدت هيئة التراث 8176 موقعًا أثريًّا في كافة مناطق المملكة، وهي 1534 موقعًا في منطقة الرياض، و684 موقعًا في منطقة مكة المكرمة، و1533 موقعًا في منطقة المدينة المنورة، و450 موقعًا في منطقة حائل، و175 موقعًا في منطقة الجوف، و651 موقعًا في منطقة عسير، و910 مواقع في منطقة تبوك، و269 موقعًا في منطقة الحدود الشمالية، ، و698 موقعًا في المنطقة الشرقية، و211 موقعًا في منطقة القصيم، و741 موقعًا في منطقة جازان، و121 موقعًا في منطقة الباحة، و199 موقعًا في منطقة نجران.
وجرى تسجيل أغلب تلك المواقع في سجلات المملكة والتراث الإنساني، بصفتها من معالم الحضارة الإنسانية عبر التاريخ، وعن طريق الجهود الرسمية العلمية، شملت كل المراحل والفترات الحضارية والتاريخية في المملكة، ويجري العمل على استكمال تسجيل بقية المواقع الأثرية.
بدايات التنقيب في السعودية
بدأت المملكة عمليات التنقيب عن الآثار في مواقعها المختلفة مع بعثات الاستكشاف الأجنبية في الخمسينات الميلادية من القرن العشرين، إذ تعاونت الحكومة السعودية آنذاك مع البلجيكيين والكنديين، وكذا مع معهد الآثار بالعاصمة البريطانية لندن للكشف عن المواقع الأثرية.
وتطور البحث والتنقيب وصيانة الآثار في المملكة، متخذًا شكلًا جديدًا من خلال 4 محاور، أولها المشروع السعودي الألماني المشترك في منطقة تيماء شمال المملكة، والمحور الثاني هو المشروع السعودي الفرنسي الذي يبحث في مدينة الحِجْر، والثالث هو المشروع السعودي البريطاني على امتداد ساحل البحر الأحمر. أما الرابع فعن طريق علماء الآثار السعوديين في موقعين مهمين، أولهما موقع الخريبة بمنطقة العلا شمال غرب المملكة، والثاني يتعلق بآثار منطقة "المابيات" شمال غرب المملكة.
دعمًا لعمليات التوسع في البحث عن الآثار بالمملكة، أطلقت هيئة التراث بوزارة الثقافة في عام 1443هـ/2022م مبادرة "المكتشف الصغير" التي تستهدف توعية صغار السن في جميع مناطق المملكة بأهمية أعمال التنقيب عن الآثار، ورفع مستوى المساهمة المجتمعية في حماية وصون التراث الوطني. وتُنفذ على ثلاث مراحل، تستهدف المرحلة الأولى الأطفال من عمر 6 إلى 12 سنة، فيما تستهدف المرحلة الثانية الأعمار من 13 إلى 15 سنة، في حين تهدف المرحلة الثالثة إلى استمرارية مشاركة صغار السن في أعمال التنقيب التي تقوم عليها هيئة التراث بشكل مستمر.
مشاركات دولية في التنقيب بالسعودية
تعاونت الجهات الأثرية في المملكة مع عدد من الفرق البحثية والاستكشافية السعودية والأوروبية والآسيوية، وفي عام 1439هـ/2017م عملت 5 من تلك الفرق في التنقيب عن الآثار بأكثر من موقع في منطقة تبوك، شملت البعثة الألمانية التي تعمل في تيماء، والفريق البولندي الذي يعمل في قرية "عينونة"، والفريق الياباني الذي يعمل في وادي "المحرق"، والفريق السعودي الفرنسي الذي عمل في أول موسم له بمحافظة البدع، إضافةً إلى فريق آخر مشترك يعمل في موقع "قرية" شمال مدينة تبوك.
ومع تكثيف عمليات البحث والتنقيب حقق قطاع الآثار إنجازات مهمة، جعلت المملكة من الدول الرائدة عالميًّا في مجال الكشوفات الأثرية والبحث العلمي. وفي عام 1440هـ/2018م وصل عدد البعثات التي تعمل في التنقيب الأثري بالمملكة إلى أكثر من 40 بعثة سعودية دولية، وكشفت أعمال التنقيبات أن المملكة موطن للهجرات الإنسانية الأولى والاستيطان البشري قبل نحو 90 ألف عام.
مواكبة لجهود التنقيب عن الآثار، نجحت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، (وزارة السياحة حاليًّا)، في استعادة أكثر من 53 ألف قطعة أثرية من داخل وخارج المملكة، وتم تسجيل تلك القطع رقميًّا من خلال خريطة رقمية وفق المعايير العالمية الخاصة بتسجيل وأرشفة البيانات المتعلقة بالمواقع والقطع الأثرية والتراثية.
مواسم التنقيب الأثري في السعودية
تنظم هيئة التراث حاليًّا أعمال المسح والتنقيب الأثري في المملكة، وقد توسعت أعمال المسح والتنقيب لتأخذ في شكلها ومضمونها منحى آخر أكثر شمولية ومنهجية ولتشمل مواقع أكثر، حيث شهدت الفترة التي سبقت جائحة كورونا (كوفيد-19) مشاركة أكثر من 40 بعثة سعودية دولية مشتركة في مختلف مناطق المملكة.
تكون عمليات المسح والتنقيب بمناهج علمية حديثة تشارك فيها، إلى جانب الفرق السعودية، بعثات دولية من عدد من الجامعات والمراكز البحثية المتخصصة في الآثار، منها: كلية وايتمان بالولايات المتحدة الأمريكية، وجامعات يورك وليفربول وإكسترا في المملكة المتحدة - بريطانيا، والمركز الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا، والمعهد الألماني للآثار، إضافةً إلى جامعة فيليبس بألمانيا، وجامعة نابولي بإيطاليا، وجامعة فينا بالنمسا، وجامعة وراسو في بولندا، وجامعة هلسنكي بفنلندا، وجامعتي كانازاوا وواسيدا ومؤسسة متوكو كاتاكورا باليابان، والمركز الوطني للتراث الثقافي بالصين، وجامعة كوينزلاند بأستراليا.
على صعيد المسح والتنقيب الأثري من جانب البعثات السعودية فإنها تعمل في 6 مواقع أثرية، وتضم فرقًا من جامعات الملك سعود، وحائل، وجازان، وكلية الشرق العربي للدراسات العليا، في إطار تعاون وزارة السياحة مع الجامعات الحكومية والكليات الأهلية السعودية، إضافةً إلى تنفيذ عدد من مشاريع المسح والتنقيب الأثري في مناطق مختلفة من المملكة في 16 موقعًا يمتد تاريخها إلى أكثر من مليون سنة من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الإسلامية (القرن العاشر الهجري).
اكتشافات أثرية جديدة في السعودية
توصلت أعمال التنقيب عن الآثار في المملكة إلى اكتشافات مهمة، ومن ذلك اكتشاف فريق سعودي دولي مشترك في عام 1442هـ/2020م لآثار أقدام لبشر وفيلة وحيوانات مفترسة حول بحيرة قديمة جافة على أطراف منطقة تبوك، يعود تاريخها إلى أكثر من 120 ألف سنة. ويمثل ذلك الدليل العلمي الأول على أقدم وجود للإنسان على أرض شبه الجزيرة العربية، كما أنه يقدم لمحة نادرة عن بيئة الأحياء أثناء انتقال الإنسان لهذه البقعة من العالم.
وتعددت نتائج المسح الأثري لذلك الاكتشاف، حيث عُثر على آثار أقدام بشرية لسبعة أشخاص، وآثار لحوافر جمال وفيلة، وحيوانات من فصيلتي الوعول والبقريات، إضافةً إلى نحو 233 أحفورة، تُمثل بقايا عظمية للفيلة والمها، مما يعكس عمق تاريخ شبه الجزيرة العربية ومدى إسهاماتها الحضارية في التاريخ.
واشتملت النتائج المسحية والبحثية على كثير من الأدلة الحضارية في مناطق المملكة، ففي عام 1442هـ/2021م عثر فريق من علماء الآثار في محافظة العلا، شمال غرب المملكة، على أقدم دليل لوجود كلاب تعايشت مع البشر في شبه الجزيرة العربية، حيث وجد الباحثون عظامًا تعود لكلب في مدفن يُعد من أقدم المدافن التي جرى تحديدها في المملكة، وهي معاصرة تقريبًا لتلك المدافن المكتشفة والمؤرخة في أقصى الشمال في بلاد الشام، حيث تشير الأدلة إلى أن أقدم استخدام للمدفن كان في حوالي عام 4,300 قبل الميلاد.
وجاءت تلك النتائج لجهود علمية لفريق مشترك ضم أعضاء سعوديين وأستراليين وأوروبيين، وتركزت جهودهم على موقعين للدفن فوق الأرض يعود تاريخهما إلى الألفية الخامسة والرابعة قبل الميلاد، وعثر الفريق على 26 قطعة من عظام كلب، إلى جانب عظام 11 شخصًا (6 بالغين ومراهق و4 أطفال).
تاريخ الوجود البشري في السعودية
مع الوقت بدأت تظهر نتائج أعمال المسح والتنقيب من خلال مزيد من الاكتشافات في مختلف مواقعها، ففي عام 1443هـ/2021م أُعلن عن اكتشافات أثرية حديثة شمال المملكة تُظهر وجود دلائل لهجرات بشرية مبكرة من قارة أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية بدأت قبل نحو 400 ألف سنة وتكررت على مراحل زمنية متعددة خلال 300 ألف، و200 ألف، و130-75 ألفًا، و55 ألف سنة مضت، كأطول سجل حضاري للوجود البشري المبكر في شبه الجزيرة العربية.
قدمت تلك الاكتشافات رؤية واسعة لعمليات التعاقب الحضاري والإنساني في المملكة عبر التاريخ، حيث أظهرت الدراسة العلمية وجود صناعات حجرية آشولية يعود عمرها إلى 200 ألف سنة. ويُعد موقع خل عميشان بالنفود الكبير على أطراف منطقة تبوك من المواقع الأثرية البارزة، وضمت الطبقة الأثرية المُبكرة في الموقع، التي تعود إلى نحو 400 ألف سنة، فؤوسًا آشولية، وتُعد أقدم البقايا الأثرية المؤرخة في شبه الجزيرة العربية.
شمل المسح الأثري كثيرًا من المواقع في المملكة، ومع جهود علمية متقدمة ظهر مزيد من النتائج، كما في عام 1442هـ/2021م، حيث أظهرت نتائج أول موقع آشولي مؤرخ في المملكة "النسيم" في صحراء النفود بمنطقة حائل شمال المملكة، أدلة بيئية على وجود بحيرةٍ عميقة ربما كانت عذبة المياه، مع أدلة معالم بيئية قديمة وما ارتبط بها من مواد أثرية تعود إلى عصر البليستوسين الأوسط.
لموقع النسيم أهميته التاريخية والعلمية في مجال الآثار، إذ يُعد أقدم المواقع الآشولية الموثقة حتى الآن في المملكة، ويكشف الستار على المستوى الإقليمي عن أنواعٍ من مجاميع لأدوات حجرية استخدمها الإنسان في عصر البليستوسين الأوسط، ومن المرجح أنها تشير إلى تكرار عودة الإنسان إلى شبه الجزيرة العربية عندما كانت مروجًا وأنهارًا، إذ يحتوي الموقع على حوض عميق يبرز في وسطه رواسب عثر فيها على مواد أثرية من العصر الحجري الأسفل، وجُمع نحو من 354 قطعة فأسٍ حجري، مع رقائق حجرية مختلفة.
الاختبارات ذات الصلة
مقالات ذات الصلة