
القضاء في عهد الملك عبدالعزيز، هو إحدى الركائز الأساسية في بناء الدولة السعودية الحديثة، إذ حرص الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على ترسيخ العدالة المستمدة من الشريعة الإسلامية، وجعلها المرجع الأول في كل الأمور والأحوال الشخصية والمدنية والجنائية، وحرص على تنظيم القضاء تنظيمًا تدريجيًا من حيث إجراءاته وتركيز مسؤولياته وتحديد اختصاصاته حتى أصبح بصورة مغايرة لما كان عليه قبل توحيد المملكة العربية السعودية.
أحوال القضاء في بداية عهد الملك عبدالعزيز
كان وضع القضاء قبل عهد الملك عبدالعزيز متباينًا في أحواله، إذ كان إقليم الحجاز والأحساء يتبع تنظيمًا قضائيًا منظمًا نسبيًا، يتعلق بترتيب المحاكم وسير الإجراءات فقط، فيما كان القضاء في نجد يقوم به قضاة منفردون في المدن الرئيسة، في كل مدينة قاض وأمير (حاكم إداري)، يستعرض القاضي ما بين الخصمين ثم يحكم بما يراه مناسبًا في القضية، فإن رضي الطرفان نُفّذ الحكم مباشرة، وإن رفُض من أحدهما أو كليهما رُفع إلى الأمير ليتولى تنفيذه.
ولم يكن للقاضي في نجد آنذاك محكمة أو مقر للقضاء، إذ كان ينظر في القضايا في بيته، أو المسجد، أو أي مكان وُجد فيه، كما كان ينظر في القضايا وعموم الأحداث التي تحصل في البلاد التي يكون فيها، وما قرب من مكان إقامته من القرى والتوابع، فكان القضاء عمومًا يتسم بالبساطة في الإجراءات، وعدم التعدّد في الدرجات، وتصدر الأحكام بالمشافهة ولا تكتب إلا نادرًا، وتنفّذ في بعض الأحيان في اليوم نفسه، أو في اللحظة نفسها، دون تأجيل أو تكرار في عقد الجلسات، وكان الملك عبدالعزيز يُعيّن القضاة بنفسه، ويحرص أن يكونوا ممن يُشهد لهم بالنزاهة، ويخصص لهم الأعطيات من بيت المال، ويسند إليهم بعض الأدوار العلمية والوعظية. وفي منطقة عسير لا يختلف الأمر كثيرًا عمّا كان في نجد، إذ عيّن الملك عبدالعزيز أميرًا وقاضيًا عليها لإقامة الأحكام الشرعية.
ولم يكن هناك قضاء مختص بنوع من القضايا المحددة، إذ تعد أول محكمة من هذا النوع في نجد وملحقاتها هي "مستعجلة الرياض" التي أنشئت عام 1369هـ/1950م، وكانت محكمة جزئية تنظر في قضايا ومبالغ محددة.
أما في البادية فكان أهلها يطبقون ما يسمى لديهم بـ"حكم العارفة"، والعارفة بمنزلة القاضي في مدن الحاضرة، ويسمى مجموعهم "العارفون"، وهم أفراد مشهود لهم بالحكمة والاطلاع على العرف والعادات القبلية، ثم حلّ محلهم طلبة العلم الذين عيّنهم الملك عبدالعزيز في القبائل، إذ أوكل إلى عبدالله بن عبداللطيف أمر اختيار الدعاة والمرشدين من أهل العلم وإرسالهم إلى قرى وهِجر البادية لتثقيفهم في الدين الإسلامي، والفصل فيما يعرض بينهم من خصام.
التنظيمات القضائية في عهد الملك عبدالعزيز
حرص الملك عبدالعزيز بدءًا على تحقيق التوافق بين الأنظمة القضائية التي كانت متبعة في المجتمع قبيل الحكم السعودي، وعلى أن تكون متوافقة مع نظام العدالة في الإسلام، ووضعها في إطار يقبله المجتمع، فلم يبدأ بأي تغيير جذري في أسلوب القضاء المتبع قبل حكمه في الحجاز، بل أوكل النظر في نظام المحاكم وترتيبها إلى المجلس الأهلي "مجلس الشورى حاليًا"، الذي أنشئ في مكة المكرمة عام 1344هـ/1926م، إذ جاء في البيان الذي أصدره أن من اختصاصات المجلس النظر في نظام المحاكم، وترتيبها بصورة تضمن تطبيق العدل، والأحكام الشرعية.
كانت الخطوة الأولى في تنظيم القضاء صدور المرسوم الملكي في 6 صفر 1346هـ/4 أغسطس 1927م، بتشكيل المحاكم في الحجاز على ثلاث درجات، متضمنًا اختصاص كل منها، وهي:
1- محاكم الأمور المستعجلة (محاكم جزئية).
2- محاكم كبرى، ومحاكم ملحقات، وهي عبارة عن محاكم عامة.
3- هيئة المراقبة القضائية (محكمة نقض وإبرام).
وإلى جانب هذه المحاكم وُجدت محاكم مختصة في الحجاز، هي: المجلس التجاري الذي تشكّل في جدة عام 1345هـ/1926م، للنظر في الشؤون والقضايا التجارية التي تستدعي سرعة البت فيها. إضافة إلى مجلس تجاري آخر في ينبع، وهي جهات تحوّلت فيما بعد إلى هيئات حسم المنازعات التجارية، وفي العهد الحديث أصبحت تسمى "المحاكم التجارية"، وتعد جزءًا من محاكم الدرجة الأولى في وزارة العدل.
وأنشئت في عهد الملك عبدالعزيز جهات ملحقة بالمحاكم تعد بمنزلة أجهزة مساندة للقضاء، هي:
- كتّاب العدل، وهم موظفون مختصون بتسجيل المعاملات التجارية، مثل عقود الشركات، والمبايعات، والاتفاقيات والوكالات، وكان أول تنظيم لدوائر كتابات العدل ما تضمنه المرسوم الملكي في صفر 1346هـ/أغسطس 1927م، في الفصل الرابع بتحديد وظائف كتّاب العدل، ثم صدر نظام لكتّاب العدل في 26 صفر 1346هـ/24 أغسطس 1927م، متضمنًا 30 مادة، وفي عام 1357هـ/1938م، صدر نظام "تركيز مسؤوليات القضاء" وتضمن في الباب السادس شرحًا لوظائف كتّاب العدل، وكيفية القيام بها، وواجبات أعضاء كتابات العدل، ثم صدر نظام آخر خاص بكتاب العدل في 1364هـ/1945م، متضمنًا 48 مادة.
- بيوت المال، وكان يديرها موظف يسمى "مأمور بيت المال"، وتختص بتقييد الوفيات وحصر وحفظ تركاتهم إذا لم يكن للميت وارث، أو كان في الورثة قاصر أو غائب لا وكيل له، وينوب عنهم إذا لزم الأمر في الدفاع والمرافعات القضائية، ويعود إنشاء بيوت المال إلى المرسوم الصادر في 4 صفر 1346هـ/2 أغسطس 1927م، إذ نصّ في الفصل الخامس على إنشاء إدارة بيوت المال في كل من محاكم مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة، وتحديد تشكيلها، وهي من الوجهة القضائية المرتبطة بالمحاكم.
وشملت التنظيمات القضائية والإدارية في عهد الملك عبدالعزيز تنظيم أوضاع المحاكم وتشكيلاتها، إذ عالج التنظيم ما يتصل بالمحاكم وتصنيفها وإجراءات سير التقاضي فيها، والأجهزة المتممة لها، كما تضمن الالتزام بمبدأ مجانيّة التقاضي، إضافةً إلى توحيد المراجع في الأحكام القضائية،وإصدار نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي عام 1357هـ/1938م، وهو نظام يعالج ما يتصل بتسمية القضاة ونوابهم، والمحاكم واختصاصاتها الموضوعية، وتصنيفها ودرجاتها، والدوائر المرتبطة بها، ثم أُعيد إصداره عام 1372هـ/1952م، وهو أدق تنظيمًا من سابقه، ولا يتعارض معه إلا فيما يتعلق بمسميات السلك القضائي، ومسميات المحاكم، إذ نصّت المادة الخامسة منه على أن المحاكم تتكون من:
- مجلس القضاء الأعلى، وهي درجة قضائية جديدة.
- محكمة التمييز، وهي في مقابل هيئة التدقيقات الشرعية، ثم هيئة التمييز لاحقًا.
- المحاكم العامة، وهي مقابل المحاكم الكبرى، ومحاكم الملحقات.
- المحاكم الجزئية، في مقابل المحاكم المستعجلة.
وشمل تنظيم القضاء ما يخص الإجراءات وأصول المحاكمات، مثل: نظام سير المحاكمات الشرعية الصادر عام 1350هـ/1931م، ونظام المرافعات الصادر عام 1355هـ/1936م، الذي أُعيد إصداره عام 1372هـ/1952م مع بعض التغييرات تحت عنوان "تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية"، وشمل عدة موضوعات هي: تحديد موعد سماع الدعوى، وإعلانها للخصوم، وتنظيم ملفات القضايا المعدة للنظر قبل موعد الجلسة من قبل كاتب مختص، وسماع الدعوى واستجواب الخصوم، وغياب الخصوم أو أحدهم، والأحكام الغيابية، وإعلام الحكم وتمييزه، والتنفيذ المؤقت، والوكالات (المحاماة)، وأحكام عمومية.
رئاسة القضاء في عهد الملك عبدالعزيز
بعد ضمّ الحجاز لحكم الملك عبدالعزيز عيّن الأمير فيصل بن عبدالعزيز "الملك لاحقًا" نائبًا عامًا له في الحجاز، وبعد توليه النيابة العامة في الحجاز عيّن مديرين للدوائر المهمة التي كانت موجودة آنذاك، منها إدارة القضاء، التي تحولت لاحقًا إلى "رئاسة القضاء"، وكانت ترتبط إداريًا بنائب الملك قبل إنشاء مجلس الوكلاء "مجلس الوزراء حاليًا"، ومقرها مكة المكرمة، وعُيّن عبدالله بن سليمان بن بليهد مديرًا لها عام 1344هـ/1926م.
وتتألف رئاسة القضاء من: رئيس القضاة، ومُعاون رئيس القضاة، وهيئات التدقيقات الشرعية، وديوان رئاسة القضاة. وتعد رئاسة القضاء الدائرة الرئيسة من حيث الرقابة على المحاكم وكتّاب العدل وبيوت المال، ودوائر تفتيش المحاكم، وعلى أعمالها وواجباتها وصلاحياتها والعاملين بها، وهي مرجع الإفتاء وتدقيق الأحكام، وحركة القضاة وتنقلاتهم، والنظر في الشكاوى الموجهة إليها، إذ صدر توجيه الملك عبدالعزيز في 24 رجب 1344هـ/8 فبراير 1926م بجعل المحاكم في عسير وغيرها من المناطق الجنوبية والغربية مرتبطة برئاسة القضاء في مكة المكرمة.
المصادر
الملك عبدالعزيز ووضع قواعد التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية. سعود الدريب.
تاريخ القضاء والقضاة في العهد السعودي. عبدالله بن محمد الزهراني. 1998م.
دور القضاء في توطيد الحكم السعودي بمنطقة عسير في عهد الملك عبدالعزيز. سعيد بن عبدالله بن جفشر. 2023م.
الاختبارات ذات الصلة
مقالات ذات الصلة