تاريخ المكتبات في الحجاز، يرتبط بمكتبات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، يعود تاريخ أقدمها إلى مطلع التاريخ الإسلامي، وتحديدًا إلى القرن الهجري الأول. وتشير المراجع التاريخية إلى أن البداية كانت في المدينة المنورة حين جمع القرآن الكريم مخطوطًا على صحائف من الرق، واستُنسخت منه مجموعة من المصاحف، وُزعت على بعض العواصم الإسلامية في عصر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وشهدت منطقة الحجاز قديمًا حركة ثقافيّة تمثّلت في تدوين الحديث الشريف، والكتابة عن قضايا العقيدة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم، مما أحدث تأثيرًا في ظهور مجموعة من الكتب احتفظ بها أصحابها، والتي كوّنت فيما بعد نواة لبنية المكتبة الإسلامية،غير أن غالبية مكتبات الحجاز تعرضت للسطو قبل الحكم السعودي، واستمر عمل بعضها في العهد السعودي، منها مكتبة عارف حكمت، والمكتبة المحمودية، ومكتبة الحرم المكي الشريف، ومكتبة عبدالله بن العباس.
تشير المصادر التاريخية إلى بدايات ظهور المكتبات في مكة المكرمة، منها إنشاء مكتبة عامة من قِبل عبدالحكم بن عمرو الجمحي في أواخر القرن الأول الهجري، وتعد الأولى من نوعها في تاريخ الحضارة الإسلامية، وظهور مجموعة من المكتبات خلال القرون الهجرية التالية، يؤيد ذلك ما أشار إليه الأزرقي في كتاب "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار" من أن سيلاً دخل الحرم المكي الشريف عام 417هـ/1026م، ووصل إلى خزائن الكتب، وأتلف فيها الكثير.
وتذكر المصادر وجود مكتبة في القرن السادس الهجري تُعرف بالخزانة المالكية، غالبية كتبها في فقه المذهب المالكي الإسلامي، كما ورد إنشاء رِباط في مكة من قِبل ملك اليمن "نور الدين بن صلاح الدين" وأوقف فيه نفائس من الكتب، وكان هذا الرباط من أغنى أربطة مكة المكرمة بالكتب، كما أوقف بعض العلماء في الرباط نفسه كتبًا كثيرة. وفي القرن السابع أوقف الأمير شرف الدين إقبال بن عبدالله الشرابي العباسي، كتبًا في مجالات عدة، وذلك في مدرسته المجاورة للحرم المكي.
وفي القرن الثامن الهجري أمر ملك بلاد فارس السلطان شاه شجاع، بإنشاء رِباط مقابل باب الصفا، وأوقف فيه مجموعة من الكتب، كما أرسل إلى الحرم المدني خزانة كتب. وفي القرن التاسع أوقف الشيخ أحمد بن سليمان التروجي بعض الكتب في رباط الخوزي بمكة المكرمة، وأوقف الشيخ عبدالملك الكردي في مكة المكرمة الكثير من الكتب، ومن أنفس مكتبات ذلك القرن مكتبة مؤرخ مكة المكرمة تقي الدين الفاسي، كما تأسست في مكة المكرمة أول مكتبة عامة منظّمة، هي المكتبة التي أوقفها الملك قايتباي عام 882هـ/1477م، وجعل مقرها مدرسته، وعيّن عليها موظفا خاصا، ووضع لها سجلاً لضبط كتبها.
وكانت لدى بعض الأسر العلمية في الحجاز مكتبات كبيرة، مثل أسرة بني فهد في مكة المكرمة التي كانت لها مكتبة تشتمل على كتب نادرة، استفاد منها كثير من العلماء والباحثين في ذلك الوقت، حيث كان يُسمح بإعارة كتبها للجميع، ثم أوقفت بعد وفاة صاحبها على أبنائه وأحفاده، وفي القرون: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، توالى إنشاء المكتبات في الحجاز، وخاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت للقطبي، وهو أحد المؤرخين العرب، مكتبة انتقلت بعد وفاته إلى ابن أخيه الشيخ عبدالكريم، وبلغ مجموع محتوياتها 14 ألف كتاب.
وفي القرن الثالث عشر، أمر السلطان عبدالمجيد بإرسال خزانة كتب تحتوي على 3653 كتابا، وُضعت أول الأمر في قبّة كانت في الساحة الواقعة خلف بئر زمزم، إلا أن غالبية كتبها غرقت عام 1278هـ/1861م، نتيجة سيل حدث حينها. وفي عام 1299هـ/1881م، خُصصت القبة الواقعة فوق باب الدريبة لحفظ الكتب، فنُقلت بقية كتب السلطان عبدالمجيد إليها، وبعد ذلك ضُمت إليها الكتب التي أوقفها الشريف عبدالمطلب أمير مكة المكرمة آنذاك، وكتب الشيخ صالح عطرجي أحد مدرسي الحرم المكي سابقًا.
المكتبات الوقفية في الأربطة والمدارس في مكة المكرمة
كانت مجموعة من المكتبات في الحجاز موقوفة على الأربطة والمدارس منذ القرن السادس الهجري، منها "رباط ربيع" الذي عرف لاحقًا برباط الحضارمة، وأوقفه في حي أجياد بمكة المكرمة سنة 594هـ/1197م، الملك الأفضل علي بن صلاح الدين الأيوبي، على الفقراء المسلمين الغرباء، وأوقف معه كتبًا كثيرة، ورباط الخوزي، الذي تكونت مكتبته من مجموعات موقوفة عليه، إضافة إلى أربطة أخرى وجدت بها مكتبات مثل: رباط الموفق، ورباط الشرابي، ورباط السدرة، ورباط الأبرقوهي، ورباط الصفا، ورباط سليمان.
وأسهم بعض الملوك والحكام المسلمين في تزويد مكتبات مكة المكرمة، وتحديدًا مكتبة الحرم المكي، بمخطوطات نفيسة وكتب نادرة، من ذلك أن أحد ملوك المغرب بعث بمصحف ضخم حمل على بغل ليوقف في مكة المكرمة، إلى جانب عدد من الخزائن التي كانت تفتح أبوابها للجميع، وكان دخولها والمطالعة فيها مجانًا، وكثير منها يقدم الورق والحبر وأدوات الكتابة، كما كان في معظمها مرشدون لمساعدة القراء في إيجاد المصادر التي يبحثون عنها.
تاريخ المكتبات في المدينة المنورة
حظيت المدينة المنورة على مر العصور بمكتبات عدة، منها مكتبة الحرم المدني، التي تكونت مجموعاتها من أوقاف الملوك والحكام والعلماء والأثرياء، إذ يسجل التاريخ أنه كانت في الحرم المدني عام 580هـ/1184م، خزانتان كبيرتان تحتويان على كتب ومصاحف موقوفة، كما أوقف أحد سلاطين بلاد فارس خزانة كتب في الحرم المدني عندما زار المدينة المنورة.
وحظيت مكتبة المدرسة الشهابية باهتمام العلماء المقيمين والوافدين إلى المدينة المنورة، حيث أوقفوا عليها مجموعات نفيسة من الكتب، منهم أبو إسحاق، ومحيي الدين الحوراني، من أهل القرن الثامن الهجري، وقد أوقف كل ما يملكه من كتب على هذه المدرسة. وظل الاهتمام بالمكتبات في الحجاز إلى زمن الحكم العثماني، وبلغت مكتبات المدينة المنورة في أواخر العهد العثماني 88 مكتبة، بما فيها المكتبات المدرسية، والمكتبات الخاصة، ومكتبات الأربطة.
المكتبات الخاصة، مثل: مكتبة الشيخ عبدالحي بن عبدالرحمن أبي خضير.
المكتبات المدرسية، مثل: مكتبة المدرسة الإحسانية، وأسسها مصطفى بن محمد، في باب الجمعة بحي الأغوات عام 1275هـ/1858م، ومجموع كتبها 461 كتابًا، ومكتبة مدرسة الساقزلي، التي أنشأها أحمد بن السيد إبراهيم المعروف بالساقزلي عام 1125هـ/1713م، وعدد كتبها 593 كتابًا، وقد أوقف كثير من الأشخاص كتبهم فيها، ومكتبة مدرسة الشفاء التي أنشأها عام 1112هـ/1700م فيض الله أفندي من علماء الدولة العثمانية، بلغ مجموع كتبها 1441 كتابًا، بين مخطوط ومطبوع.
وأنشأ السلطان قايتباي، مكتبة مدرسة قايتباي، وبلغ عدد الكتب في خزانتها 4569 كتابًا، وظف لها عاملًا ونظم سجلًا للكتب فيها، وأسس مصطفى آغا كيلي ناظري مكتبة مدرسة كيلي ناظري، عام 1254هـ/1838م، وعدد كتبها 157 كتابًا.
مكتبات الأربطة، ومنها مكتبة رباط الجبرت، وهي تضم عددًا من الكتب الموقوفة من بعض الأشخاص، ومجموع كتبها 103 كتب، منها 25 مخطوطًا، ومكتبة رباط عثمان بن عفان، ومعظمها كتب مخطوطة في فقه المذهب المالكي، وامتازت بأنها كانت تسمح بالإعارة الخارجية، مقابل سند تسليم يبقى لدى المكتبة إلى حين إعادة الكتاب إليها، ومكتبة رباط قراء باش التي أسسها الشيخ عبدالرحمن أفندي عام 1031هـ/1621م.
مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية، هو جهة حكومية، أنشئت بقرار صادر من مجلس الوزراء، عام 1437هـ/2016م، ويشرف على المجمع مجلس أمناء برئاسة أمير منطقة المدينة المنورة، ويرتبط تنظيميًّا برئيس مجلس الوزراء. ويهدف إلى المحافظة على المكتبات الوقفية وخدمتها وإتاحتها، من خلال العناية بالمقتنيات النادرة الموجودة في المجمع والمحافظة عليها، وعرضها متحفيًّا، ونشر المعرفة والوعي بالمخطوطات، والعناية بها، وتطوير منهجية علمية وعملية للمحافظة على المكتبات الوقفية ذات المحتويات النادرة، وبناء قواعد معلومات إلكترونية متقدمة بمحتويات المجمع، إضافة إلى التعريف بالتراث الحضاري العربي والإسلامي المخطوط، وإبرازه ونشره، وإقامة المعارض والمؤتمرات والندوات عن المكتبات الوقفية وتنظيمها، وكذلك التعاون وتبادل المعلومات والمطبوعات مع المكتبات والهيئات المحلية والدولية.
مصير مكتبات المدينة المنورة
تعرضت المدينة المنورة خلال العصور التاريخية لأحداث كثيرة، كانت سببًا في ضياع مكتباتها ونفائسها المخطوطة، وانتقل الكثير من كتبها إلى كبريات مدن العالم، عن طريق تجار الكتب الذين نقلوا كثيرًا من المخطوطات إلى آسيا وأوروبا وبيعت هناك، منها ما هو موجود الآن في مكتبة ليدن في مدينة لايدن الهولندية، والمكتبة الملكية في برلين، ومكتبة جامعة برنستون الأمريكية.
وتحدث أحمد عبدالغفور عطار في كتاب "قطرة من يراع"، عن وضع المكتبات في الحجاز، وأشار إلى وجود مكتبات أخرى غير ما ذُكر سابقًا، حيث أشار إلى أن المدينة المنورة وحدها كانت تضم 53 مكتبة، بين عامة وخاصة، اندثر غالبيتها مع الأيام وضاعت محتوياتها، وما بقي منها ضُم إلى وزارة الحج والأوقاف (وزارة الحج والعمرة حاليًّا).
المصادر
الاختبارات ذات الصلة
مقالات ذات الصلة