مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، هي مفهوم حديث في الفكر الاقتصادي المعاصر، قدمته المملكة العربية السعودية خلال رئاستها قمة مجموعة العشرين في نوفمبر 2020م بالرياض، والذي اعتمدته المجموعة بوصفه إطارًا متكاملًا وشاملًا لمعالجة التحديات المترتبة على انبعاثات الغازات الدفيئة وإدارتها بشتى التقنيات المتاحة، ويُعدُّ الركيزة الأساسية للمساعدة في إعادة التوازن لدورة الكربون في العالم.
البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون
لتطوير المفهوم وتعزيز إسهام السعودية في تطبيقه، تعمل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست" على إعادة صياغة الحوار الدائر بشأن الكربون، ودمج مواد الكربون وتدفُّق الطاقة في الاقتصاد الدائري، الذي يتمثَّل في القضاء على النفايات والاستخدام المستمر للموارد التي تنتج من وضع الهيدروكربونات التي تأتي من تحت أرض المملكة في اقتصادٍ دائري عن طريق استخدامها مرارًا.
ولأن الانبعاثات والغازات المسبِّبة لظاهرة الاحتباس الحراري أصبحت هاجسًا للعالم، عملت السعودية على الحد من هذه الانبعاثات عن طريق تطوير مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، الذي وافقت عليه مجموعة العشرين كإطار متكامل وشامل لمعالجة التحدَّيات المترتبة على الانبعاثات وإدارتها بشتى التقنيات.
وبذلت السعودية بوصفها من كبار منتجي الطاقة في العالم جهودًا كبيرةً للحدِّ من الانبعاثات وحماية الكوكب، ويشكِّل الاقتصاد الدائري للكربون طريقةً مستدامةً اقتصاديًّا لإدارة الانبعاثات باستخدام 4 استراتيجيات، هي: التخفيض، وإعادة الاستخدام، والتدوير، والإزالة، وتتماشى هذه الاستراتيجيات مع رؤية السعودية 2030 عبر برامجها الهادفة إلى تحقيق تحوّل اجتماعي ونمو مستدام اقتصاديًّا.
وطوَّرت السعودية تقنياتها وأساليب عملها في المضي قدمًا بهذا المفهوم، فأطلقت البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون، الذي يعمل على رسم خارطة طريق شاملة تتضمن الأسس والمبادئ الرئيسة لإحلال وتوطين التقنيات المتقدمة في مجال إدارة الكربون، والبرنامج ثمرة جهود مشتركة مع الجهات ذات العلاقة تهدف لتحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي بطرق مستدامة، وتعزيز الحلول المتكاملة لمواجهة ظاهرة التغيُّر المناخي، وضمان القيادة عالميًّا في مجال الاقتصاد الدائري للكربون.
كما أعلنت السعودية خلال منتدى مبادرة السعودية الخضراء الذي أقيم في مدينة شرم الشيخ عن إطلاق المرحلة الأولى لمركز إقليمي ضخم لاحتجاز والتقاط ونقل وتخزين ثاني أكسيد الكربون في مدينة الجبيل بطاقة استيعابية 9 ملايين طن سنويًا بحلول عام 2027م، وبطاقة قصوى تصل إلى 44 مليون طن سنويًا بحلول عام 2035م.
وأطلقت السعودية ثلاثة مشاريع تجريبية لاحتجاز الكربون واستخدامه في قطاعات عدة مثل: الكهرباء والإسمنت والتعدين بقيادة كل من: جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومدينة نيوم، والشركة السعودية للكهرباء، وشركة أسمنت الصفوة، ومعادن، وجلف كرايو، من أجل تعزيز اعتماد إطار عمل الاقتصاد الدائري للكربون، وتقليل الانبعاثات في القطاعات التي تستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقة.
مصانع احتجاز الكربون في السعودية
تحقق مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون عددًا من المكاسب على صعيد الأمن البيئي وسلامة الكوكب، إذ إنها تساعد على استعادة التوازن لدورة الكربون بالطريقة نفسها التي تحدث في الطبيعة، كما أنها تقدم أسلوبًا جديدًا لمعالجة تحديات التنمية المستدامة التي تقدر ضمنًا جميع الخيارات، وتشجع كافة الجهود الرامية للحدِّ من تراكمات الكربون في الغلاف الجوي، وفي الوقت نفسه تسهل النمو الاقتصادي العالمي.
وفي إطار الإدارة الكفء للكربون والحدِّ من الانبعاثات، وامتلاك الخبرات والتقنيات في هذا المجال، تملك السعودية مصنعًا كبيرًا لاحتجاز الكربون وتخزينه واستخدامه، ويحوّل نصف مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا إلى منتجات مفيدة كالأسمدة والميثانول، كما أن السعودية تمتلك معامل متطورة للاستخلاص المعزز للنفط باستخدام ثاني أكسيد الكربون، ويقوم بفصل وتخزين 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا.
تطبيق الاقتصاد الدائري للكربون عالميًّا
أقر وزراء الطاقة لمجموعة العشرين في اجتماعهم الثاني خلال عام 2020م، نهج الاقتصاد الدائري للكربون كوسيلة لإدارة الانبعاثات وتعزيز الوصول إلى الطاقة، وذلك لأنه يُعد نهجًا كليًّا وشاملًا ومتكاملًا وواقعيًّا ويعمل على إدارة الانبعاثات، ويهدف إلى توفير مسارات جديدة نحو النمو الاقتصادي، كما يمكن تطبيقه بما يتماشى مع أولويات وظروف كل بلد، فمن خلال تضمين مجموعة من الخيارات المتاحة فإن الاقتصاد الدائري للكربون يأخذ في الحسبان الظروف الوطنية المختلفة.
وتسارعت تقنيات وأبحاث الاقتصاد الدائري للكربون عقب إقراره، وقدمت مجموعة العشرين منصة الاقتصاد الدائري للكربون (CCE) التي تشمل النهج، والدليل، والمسرِّع، ويوفر الاقتصاد الدائري للكربون حزمةً من الفرص والتوصيات لدول أعضاء مجموعة العشرين، كلٌّ بحسب ظروفه الوطنية المختلفة، حيث سيساعد نهج الاقتصاد الدائري للكربون في معالجة القضايا الحاسمة بالعالم في تحقيق ضمان الوصول للطاقة للجميع.
دور السعودية في تقليل الانبعاثات الكربونية
مواكبةً لدورها الرائد عالميًّا في أمن الطاقة وتوفيرها وتقليل الانبعاثات، عملت رئاسة المملكة لمجموعة العشرين على تشجيع إطار الاقتصاد الدائري للكربون التي يمكن من خلالها إدارة الانبعاثات بنحو شامل ومتكامل، بهدف تخفيف حدة آثار التحدِّيات المناخية، وجعل أنظمة الطاقة أنظف وأكثر استدامة، وتعزيز أمن واستقرار أسواق الطاقة، والوصول إليها.
وتمنح مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون مختلف دول العالم مرونةً في تقليل الانبعاثات من خلال تبنِّي وتعزيز التقنيات التي تتناسب مع المسارات التي تختارها الدول لتحولات الطاقة، وذلك من خلال ركائز الاقتصاد الدائري للكربون، حيث تشكل هذه الركائز نهجًا شاملًا ومتكاملًا وواقعيًّا يتيح الاستفادة من جميع خيارات إدارة الانبعاثات في جميع القطاعات.
تطور "كاوست" في إدارة الكربون
تقود جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست" الجهود العلمية في تقنيات إدارة الكربون والحد من الانبعاثات، إذ إنها مجهزة بالمتطلبات لتفعيل مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون التي يتمثَّل الهدف النهائي لها في تسخير نقاط قوة الأبحاث في الجامعة والابتكارات، لتطوير ونشر حلول تقنية جديدة لدعم جدول أعمال الاقتصاد الدائري للكربون.
كما تعمل "كاوست" على تعزيز التعاون مع الأوساط الأكاديمية والصناعية والجهات الحكومية لتطوير ونشر حلول علمية وهندسية جديدة عبر خمسة مجالات استدامة موضوعية، حيث تعمل التقنيات الموفرة للطاقة إلى جانب الذكاء الاصطناعي، على تحسين التخطيط والعمليات الحضرية.
وتشمل مشاريع الجامعة في هذا المجال: الخلايا الشمسية من الجيل التالي، وإنتاج الهيدروجين، والطرق الذكية لمعالجة مياه الصرف الصحي اللامركزية، وتكييف الهواء، والأضواء الموفرة للطاقة في المنازل والأحياء الذكية، كما تستخدم الزراعة المستدامة والذكية النفايات العضوية المعاد تدويرها، والصوبات الزراعية القائمة على الطاقة الشمسية، والمياه المالحة لتحقيق النمو الأمثل للنباتات والأمن الغذائي وإمدادات الطاقة.
مبادرات أرامكو لتطوير أنظمة إدارة الكربون
سخَّرت المملكة كثيرًا من جهودها العلمية والبحثية في قطاع الطاقة من أجل تطوير أدوات وأنظمة إدارة الكربون، وشمل ذلك العديد من مؤسساتها العلمية والبحثية وشركات الطاقة، وفي مقدمتها أرامكو السعودية التي تضطلع بتوفير حلول فعَّالة للطاقة بصفتها شركة طاقة رائدة على مستوى العالم الذي يزداد فيه الطلب على الطاقة. وترى أرامكو أن الاقتصاد القائم على تدوير الكربون هو الإطار الأفضل لتحقيق أثر كبير في الحدِّ من الانبعاثات على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه ضمان استمرار النمو الاقتصادي.
وتعمل أرامكو السعودية على عدد من المبادرات في هذا المجال، كما أنها تستخدم تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، للحدِّ من الانبعاثات من خلال مراقبة استهلاك الشركة للطاقة، والارتقاء بالأعمال، وتحسين عمليات الرصد والتحليل الزلزالي، وتحسين طرق استخلاص النفط الخام وتعزيز إنتاجية آبار النفط، وتُعد كثافة الكربون في أعمال التنقيب والإنتاج بالشركة من بين الأقل في قطاع الطاقة.
جهود "سابك" في الاقتصاد الدائري للكربون
تُسهم الشركة السعودية للصناعات الأساسية "سابك" بإضافة قيمة نوعية لجهود السعودية في قيادة دول العالم للحد من انبعاثات الكربون، وتعزيز الرؤية السعودية للاقتصاد الدائري للكربون. وتُعد "سابك" من أوائل شركات الكيماويات العالمية التي تطبق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، من خلال استثمارها في إنشاء مصنع كبير عالميا لإعادة استخدام الكربون في تصنيع منتجات ذات قيمة عالية.
وبدأ عمل المصنع في فترة مبكرة لبلورة مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، إذ منذ افتتاحه في عام 2015م استخدم تقنية خاصة لاستخلاص وتنقية ما يصل إلى 500 ألف طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا الناتج عن تصنيع جلايكول الإيثيلين، ويجري ضخ ثاني أكسيد الكربون المنقَّى عبر شبكة أنابيب لاستخدامه في إنتاج منتجات عظيمة الفائدة، إضافةً إلى تلبية احتياجات قطاعات الزراعة والكيماويات والأغذية والمشروبات والصناعات الطبية وغيرها.
وتواصل "سابك" نشاطها في تطبيقات الاقتصاد الدائري للكربون بوصف هذا المفهوم أحد أوجه استراتيجية الاستدامة لديها التي تستند إلى القيم الأساس للشركة وطموحاتها، ويمهد الطريق لتحقيق أهداف النمو الاقتصادي المنشودة مع مراعاة المتطلبات البيئية والاجتماعية، والشركة تلتزم باتباع نهج شامل تجاه الاستدامة من خلال تعزيز كفاية استخدام الموارد، والاقتصاد الدائري، والأمن الغذائي، والابتكار، وحماية البيئة، مع إدارة تحديات الاقتصاد الدائري بحلول ناجحة تعزز اتجاهها نحو مستقبل مستدام، لا سيما أنها عضو أساس في البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون، الذي أطلقته حكومة المملكة بهدف ترسيخ وتسريع الجهود لتحقيق الاستدامة بأسلوب شامل.
الاختبارات ذات الصلة
مقالات ذات الصلة